الثورات العربية ومخاض الوحدة الطويل
تتمة
لقد
كانت تجربة الوحدة المصرية السورية في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ
القومية العربية، لأنها، وبشكل متناقض تماما، شهدت على نجاح وفشل هذا
المفهوم على حد سواء. فمن ناحية، جاءت الوحدة المصرية السورية لتأكيد الفشل
بدلا من النجاح القومية العربية وذلك لأن الجمهورية العربية المتحدة بقيت
على قيد الحياة لمدة تقل عن ثلاث سنوات. ومن ناحية أخرى، جددت الأمل في أن
محاولات التوحيد ما تزال قائمة ولن تموت، رغم أن المحاولات اللاحقة في 1963
من قبل كل من العراق وسوريا لتشكيل الوحدة مع مصر فشلت هي الأخرى، على
الرغم من حقيقة أن وثائق التوحيد كانت قد وقعت بالفعل
وفي
رأي البعض، فإن انهيار الجمهورية العربية المتحدة، والفشل في وقت لاحق
لتشكيل وحدة سياسية بين سوريا ومصر والعراق، على الرغم من حقيقة أن الوثائق
قد وقعت ووجدت ترحيبا كبيرا من قبل الشعب العربي، يدل على أن القومية
العربية ما هي سوى أضغاث أحلام. إلا أن الرد الذي ينفي هذا التشاؤم يقول إن
الفكرة التي ظلت على قيد الحياة على مر القرون لن يهزمها فشل تجربة أو
اثنتين، لأنها فكرة أصيلة تذكر بأمجاد الماضي مقابل الإخفاقات الحالية.
والمعنى الضمني هنا هو أن القومية العربية تبرز باعتبارها جزيرة الأمل في
سياق واقع مرير يعيشه العرب. من هذا المنظور، يمكن للمرء أن يجادل بأن
القومية العربية هي متجذرة في وجدان الشعوب العربية التي تأمل إحياء أمجاد
الماضي، أو على الأقل، استرجاعها واسترداده لمصلحة سيادتهم.
وعلى
الرغم من تكرار فشل محاولات التوحيد، واصل العرب الاعتقاد في الأهداف
القومية العربية، وواصلت الأيديولوجيات الترويج لها، حتى فشلها الداوي في
1967. وفي أعقاب هزيمة 1967 للجيوش العربية المتحدة من قبل دولة صغيرة جدا
مثل إسرائيل واحتلال أراضي مصرية، وسورية، وأردنية، ولبنانية، وما تبقى من
الأراضي الفلسطينية، قال البعض إن القومية العربية المحتضرة قد شطبت من
قائمة الأيديولوجيات الحية، وقلت فاعليتها في السياسة الدولية. وبعبارة
أخرى، فإن هزيمة 1967 لم تكن فقط عسكرية، ولكن كان الأهم من ذلك، هي الشعور
الممض بهزيمة الفكرة القومية العربية، والوحدة العربية، بوصفهما مصدرا
للقوة والسلطة. لقد حاربت الجيوش العربية في هذه الحرب كجيش واحد، يمثل
موقفا موحدا للدول العربية ضد الدولة العبرية منفردة، ولكنها عانت من واحدة
من أسوأ الهزائم في التاريخ. وقد أرسلت هذه الهزيمة إلى الجماهير العربية
رسالة مفادها أن حلم القومية العربية، التي تؤدي إلى قوة العرب هو مجرد
وهم. لهذا، اعتقد كثير من الكتاب والمحللين أن أهداف الوحدة العربية
والقومية العربية قد تمت هزيمتهما في حرب 1967.
ولكن،
وعلى الرغم مما ذكره الكتاب والمحللون بأن القومية العربية قد ماتت، وشيعت
يوم انهيار الجمهورية العربية المتحدة وهزيمة الجيوش العربية من قبل
إسرائيل في 1967، إلا أن الحقيقة تقول إنها لا تزال على قيد الحياة بين
الجماهير العربية. وفي السنوات الأخيرة، أثبتت ثلاثة معطيات مهمة إلى أي
مدى لا تزال هذه القومية العربية قوية بين الشعوب العربية، حتى إن لم يكن
ذلك كذلك بين حكوماتهم. هذه المعطيات هي الأزمة الفلسطينية، والحرب على
العراق واحتلالها، والعولمة. فقد حرضت الانتفاضة الفلسطينية ومعاناة
الفلسطينيين على القيام باحتجاجات واسعة في جميع أنحاء العالم العربي،
وإحياء شعارات القومية العربية. ولم تؤد حرب العراق واحتلاله إلا لتعزيز
القومية العربية. ليس فقط أن الشعب العربي رأى الهجوم على العراق بأنه هجوم
على دولة عربية، بل رأوه في واقع الأمر وكأنه هجوم على بلدانهم، بل وهجوم
مباشر عليهم هم كأشخاص. وبناء على ذلك، سافر العرب من مختلف أنحاء الشرق
الأوسط إلى العراق
للقتال مع الشعب العراقي وطرد الاحتلال
وساعدتهم تحديات العولمة، وما أظهرته من سوءات الغرب ووحشية هيمنته، وفرص
هذه العولمة المتمثلة في وسائل الاتصال وكسر جمود الحدود واختصار الزمان
والمكان، ساعدتهم في إعادة اكتشاف ما يجمعهم، وقربتهم إلى بعضهم البعض أكثر
من أي وقت مضى. والنقطة الرئيسية هنا هي أن استجابة الجماهير العربية
للتحدي الغربي قد برهنت على أن القومية العربية لم تمت على المستوى
الجماعي. إنها لا تزال على قيد الحياة، وفي أوقات الأزمات، فإنها تعبر عن
نفسها بطرق عدة وبقوة كبيرة، على الأقل على المستوى الشعبي، إن لم يكن على
مستوى الحكومات، كما تجلى ذلك في المظاهرات والثورات المتحركة في الشارع
العربي الآن.
وماذا بعد ؟
إن
القومية العربية، على الرغم من الهزائم المتكررة على مدى القرنين
الماضيين، وعلى الرغم من أنها قد تم محاولات خفض توقعات الناس لها إلى مجرد
"أحلام يقظة"، أو "يوتوبيا" ماضوية، قد نجت من الموت، ولسبب بسيط هو أنها
عقدت ناصيتها على الكتلة الشعبية وليس على الحكومات. وقد نجت ليس بسبب
الأيديولوجيات التي حاولت بعثها، بل بسبب الطبيعة الأصلية جدا لجذورها. فقد
ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن جميع الشعوب العربية تتوق للوحدة الجامعة،
ليس فقط الوحدة، في مستوى مفهومها النخبوي الرسمي، التي تعني التقارب
والتعاون في حدوده الرسمية الشكلية ومردوداته المتواضعة، والتي تعني ضمنا
مؤسسات الدول القُطْرية، كالجامعة العربية وغيرها. ولكن الوحدة التي تنسجم
مع رغبة هذه الجماهير المشتركة في المضي قُدُمَاً، ومَعَاً، في التعامل
الأفضل مع جميع المعطيات ومواجهة كل التحديات الماثلة، والتي لا يمكن حلها
إلا على أساس مشترك، لأنها تهدد الوجود وتتوعد المصير
لا
يهم كثيرا إذا كان هدف القومية العربية هو واقعي أم لا، لأن هذا لم يعد هو
القضية الرئيسية، التي تشغل الرأي العام العربي. إنما القضية الحقيقية هي
أن يؤخذ هذا الهدف على محمل الجد من قبل الجماهير العربية التي نعتقد أن
الوحدة هي الحل لجميع الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي
تواجه الدول والشعوب العربية. وبعبارة أخرى، فإن مفهوم الأمة العربية
ومفهوم القومية العربية يمثلان حقيقة قوية بين الجماهير العربية الثائرة
اليوم، لأنهما متجذران في ماضيهم وحاضرهم، وفي نفوسهم وآمالهم، وفي تطلعهم
للمستقبل المشترك.
لقد
بحثت هذه المقالة، بقراءة عامة، في مفهوم القومية العربية؛ ماضيها
وتجاربها، وكيف أثر هذا المفهوم على السياسة العامة في الدول العربية.
ونظرت إلى ما هو في الحقيقة حراك جماهيري باتجاه بلوغ الأمة العربية
لغاياتها, وبوادر بعث الثورة الشعبية، التي تجتاح العالم العربي، لفكرة
الوحدة بين الشعوب العربية. وعرضت لعقبات تاريخية حقيقية عطلت تحقيق هذه
الوحدة، ظهر فيها أن هناك ضرورة الآن للتوافق بين الجماهير والقيادات،
والتوفيق بين ضيق المشروع القُطْري وسعة المشروع القومي العربي، بما يراعي
الواقع ويتجاوز التجزئة نحو الاتحاد العربي. وقد بدأ جليا من قراءة شعارات
ومطالب هذه الثورات أنه ينبغي أن يهتم القادة والزعماء العرب بالقضايا
القومية والمصيرية، وأن تراعى الدول العربية كفالة الحريات الأساسية،
وحساسية التعامل مع قضية الديمقراطية وتداول السلطة. كما ينبغي أن يراعى
المشروع العربي المستقبلي متطلبات العلاقات الإستراتيجية مع الجوار
الأفريقي، والآسيوي، والأوربي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire